تمر هذه الأيام الذكرى العاشرة للغزو الأمريكي للعراق واحتلاله عام ٢٠٠٣، أو ما يحلو لبعض المثقفين العراقيين أن يسمّوه "التغيير." وهذه المفردة تستحق الوقوف عندها؛ دلالاتها والخطاب السياسي الذي تعكسه وتعيد انتاجه، بغض النظر عن نوايا من يستخدمها. فليس اختيار هذه المفردة، بالذات، محض اختصار، فـ"الحرب" أو "الغزو" تفيان بالغرض. فما الذي تضيفه هذه المفردة التي قد تبدو بريئة للوهلة الأولى، لكنها ليست كذلك البتة؟ وربما علينا أن نحوّر السؤال المطروح، لنقول: ما الذي تضببه أو تمحوه؟ وما الذي لا تقوله؟
قد يقول قائل إن المقصود بالمصطلح هو، ببساطة، ما حدث بعد الغزو، وأثناء الاحتلال، والإشارة إلى النظام السياسي الذي تم تركيبه في العراق بإشراف الاحتلال، والذي يسمّى الآن عموماً "العملية السياسية" (وهو مصطلح آخر بحاجة إلى تفكيك)، والذي يضيف إليه الكثيرون نعت "الديمقراطية." وبالتالي فـ "التغيير" هو تغيير النظام من ديكتاتورية نظام صدام إلى النظام الحالي (وهو نظام طائفي فاسد وفاشل وكارثي على كافة الأصعدة يقود البلاد إلى مستقبل مظلم).
ولكن من الذي قام بالتغيير أصلاً؟ وما هي الأفعال التي قام بها الطرف المغيّر، الفاعل، قبل وأثناء إنجاز "التغيير"؟ هل يمكن فصل، أو عزل، الغزو والحرب والاحتلال، وكل الجرائم التي اقترفت بسبب هذا الثلاثي ومن أجله، والخراب المادي والبشري الذي أوقعته بملايين العراقيين؟ هل يمكن فصل كل هذا وذاك عمّا حدث بعده، وبسببه؟ يجابه كل نقد أو تساؤل من هذا النوع، في الغالب، بتهمة موالاة النـظام السابق أو الحنين إلى زمنه. لكن كاتب السطور لم يكن يوماً مع النظام البائد، ولا كتب كلمة أو نصاً في مديحه كما فعل الكثيرون، من الذين عاودوا الظهور بحلل جديدة بعد سقوطه. لكنه كان ضد الغزو والحرب لأسباب كانت وظلت واضحة، لا بل أصبحت أكثر وضوحاً اليوم. فإسقاط النظام لم يكن الهدف من الحرب أبداً. وكذبة نشر الديمقراطية هي الأخرى لم تكن أبداً هدفاً للحرب والغزو، بل تم ترويجها فيما بعد، وبالذات بعد الفشل في إظهار أي أدلة على وجود أسلحة الدمار الشامل (وكيف لها أن تكون موجودة أصلاً في بلد دُمّر اقتصادياً من جرّاء أقسى حصار اقتصادي في التاريخ، جاء بعد حرب أعيد فيها العراق إلى العصر ما قبل الصناعي كما تشدّق الجنرال الأمريكي شوارزكورف؟). كان الهدف واضحاً منذ البداية، وهو تفكيك الدولة العراقية وتشكيل كيان تابع اقتصادياً وسياسياً للولايات المتحدة يسمح بوجود قواعد عسكريّة ويفتح البلد أمام الرساميل العالمية. . . الخ. وقد فشل هذا لأسباب عديدة، باستثناء إقليم كردستان. لا مجال هنا بالطبع لنناقش العنجهية التي تجعل مقولات كـ"بناء دولة" مصطلحاً رائجاً وبضاعة يتم المتاجرة بها بالرغم من تهافته. ومن المهم أيضاً أن نتذكر أن النظام السياسي لا يساوي ويطابق الدولة، وتغيير الأول لا يستدعي تدمير هذه الأخيرة، إلا إذا كان تدميرها هو الهدف الأساسي. ونذكر هنا مقولة فؤاد عجمي، الأمريكي-اللبناني، وأحد "الخبراء" من فريق المحافـظين الجدد الذين روّجوا للغزو والاحتلال وتصوروا أنّه سيكون نزهة، حيث شبّه غزو العراق بعملية نقل ملكية acquisition مثلما يحدث عندما تستولي شركة ضخمة على أخرى أصغر. وكان عجمي قد عنون كتابه الذي صدر بعيد الحرب "هدية الأجنبي: الأمريكان والعرب والعراقيون في العراق." ويذكّر العنوان برسالة كنعان مكيّة التي شكر فيها الأمريكان على الغزو والحرب ونشرها في مجلة "ذا نيو ريببلك" راجياً أن يحسن العراقيون التصرف بالهبة التي أكرمهم بها الأمريكان.
في خطاب "التغيير" يتوارى الفاعل الحقيقي والرئيسي، عن المسرح السياسي والتاريخي، ويترك المجال للأطراف المتصارعة. وينهمك الجمهور بمتابعة مسرح العبث والقسوة الذي يسمّى "العملية السياسية." وتشبه آثار وتبعات خطاب "التغيير" في العراق الخطاب السائد في أمريكا، البلد الذي شن الحرب واحتل العراق ودمّر دولة أقام على أنقاضها النظام السياسي المهلهل القائم الآن. فكأن انسحاب الجيش الأمريكي من العراق قد أغلق الملف وأُسدِل الستار على المشهد بأكمله، في أمريكا، كي ننتقل إلى مواضيع ومشاهد أخرى أكثر أهمية. فقلّما يجد المتتبع نقاشاً جادّاً عمّا جرى أو إقراراً بمسؤولية أمريكا عن خراب العراق (نستثني هنا اليسار الراديكالي طبعاً. لكن أصواته لا تصل إلى وسائل الإعلام). و يتم عزو الفشل والفساد السياسي والخراب المستشري في العراق منذ ٢٠٠٣ لأسباب "ثقافية" و"حضارية" وتتكفل الأساطير الاستشراقية المتجذرة في اللاوعي السياسي والثقافي بدعم مقولات كهذه. فقد حاولت أمريكا، طبقاً لهذا السيناريو، أن تغيّر العراق، لكن المشروع فشل. ويتم بذلك محو التاريخ الفعلي للغزو والحرب وتبرئة الأطراف والأشخاص الذين خطّطوا للحرب وللغزو وأولئك الذين دعموه وساندوه. وينطبق هذا على المسرح السياسي العراقي أيضاً.
يقول الكثيرون إن الاحتلال انتهى رسميّاً (فلندع الحديث عن السفارة الأضخم في العالم وعن القواعد العسكرية في كردستان وأمور أخرى لمناسبة أخرى) فلنفكّر بحل مشاكلنا وإنجاح "العملية السياسية" وتفادي عودة الحرب الأهليّة التي قد تمزّق البلاد شرّ تمزيق. ولكن هل يمكن تغيير الواقع السياسي دون فهمه بشكل شمولي؟ ودون تسمية الأشياء بمسميّاتها؟ هل يمكن تغييره بالتعامي عن حقيقته؟
إن ما يتركه الاستعمار خلفه، بالإضافة إلى الجثث والخراب المادي (ولم يكن غزو العراق إلا استعماراً جديداً) هو الخراب الفكري. فيتغلغل خطاب تم انتاجه والترويج له قبيْل الغزو، وبعده، في اللاوعي السياسي. فتصبح واحدة من أقذر وأقسى الحروب والمغامرات الإمبريالية في العصر الحديث، محض "تغيير". ويصدّق الكثير من العقلاء أن الـ(لا)نظام السياسي الحالي في العراق، الذي لا ينتج إلا الفساد والفقر والتمزّق الطائفي، هو نظام يمكن أن يتم إصلاحه دون تغيير جذري وبنيوي ودون إعادة النظر بأسسه الاحتلالية وبلاشرعيته.